الثيئيتِتُس

منابـع الفكـر وزيرة الثقافة الدكتورة لبانة مشوّح عندما أدرك العرب أن المعرفة متعددة المشارب متنوّعة الروافد، وأن الحضارة تراكمية لا تكتفي بذاتها ولا تغتني بتقوقعها، ولا يبنى صرحُها بحجارة من لون واحد... عندما أدركوا أهمية ما أنتجته شعوب تميّزت قبلهم من علوم وفنون وفكر وآداب، تحرّكوا بفضول نهم للكشف عن كنوز المعرفة الدفينة، فانكبوا على ترجمة المخطوطات النادرة من السريانية واليونانية واللاتينية والفارسية في مشروع منظّم محدّد الأهداف واضح المقاصد دقيق المعالم سليم الأدوات، هُيّئت له سبل النجاح كافة، فجيء بأهم المخطوطات في مختلف العلوم، واستقدم فحول المترجمين عن السريانية واليونانية والفارسية، فكان أن ترجموا عن الإغريق أعظم مؤلفاتهم وتعرّفوا من خلالها على عاداتهم وأخلاقهم وسنن حياتهم في الحرب والسياسة وشؤون الحياة كافة، فأضافوا أهمّ لبنة إلى صرح حضارتهم التي هضمت تلك المعارف وطوّرتها لتفيد منها الحضارة الإنسانية برّمتها. ولعلّ هذا المشروع التنويري الفريد من نوعه في التاريخ هو الذي جعل من عصر المأمون العصر الذهبي للدولة الإسلامية التي امتد نفوذها من بغداد إلى الأندلس، وجعل من دار الحكمة أول جامعة حقيقية في التاريخ. من أواخر القرن التاسع وحتى القرن الثالث عشر، كانت الترجمة نبعاً رقراقاً غذّت بمياهها الدافقة شرايين الحضارة العربية، وأسست لفكر ملتزم بالمنهجية العلمية القائمة على المحاكمة والبرهان. بدأت حركة الترجمة بأن استدعى أبو جعفر المنصور طبيباً فارسياً من جنديسابور هو جورجيس بن بختيشوغ، وكان رئيساً لأول بيمارستان ومدرسة للطب في التاريخ بالمعنى المعروف آنذاك. وعندما وصل بن يختيشوغ بغداد مع طاقمه كاملاً، بدأت أولى مراحل حركة الترجمة، التي تطورت فيما بعد إلى تأسيس بيت الحكمة. وما خزانة الحكمة إلا النواة الأولى التي أسسها الخليفة العباسي هارون الرشيد، وهي خزانة لمخطوطات يونانية في الطب والفلسفة والكيمياء المترجمة إلى السريانية، ومخطوطات في علوم الهندسة والحركات والموسيقى والفلك أو علم النجوم مما حمله الرشيد معه من سائر بلاد الروم أثناء حملاته على مدن آسيا الصغرى كأنقرة وعمورية. وتولى النسطوري يوحنا بن ماسويه مهمة ترجمتها، إلى جانب الطبيب جورجيس بن يختيشوغ ثم أولاده؛ ولاحقاً طبيب المأمون العالم والمترجم حنين بن اسحق أبو زيد بن إسحق العبادي. الذي تولى رئاسة بيت الحكمة، فتحوّل بفضله إلى أشبه بدار نشر حديثة تتولى أمور الترجمة والتأليف والنسخ. وقد ترجم ابن إسحق كتاباً في الأدوية هو المادة الطبية Materia medicaلديسقوريدس Discoridesكان له أثر مهم في علوم الصيدلة العربية، كما ترجم وألّف أكثر من مائة مخطوطة أهمها (الأسئلة الطبية) Questions Medicinaeوهو كتاب وضع على شكل أسئلة وأجوبة. مما جعل المستشرقين المنصفين أمثال المستشرق الفرنسي لاكلارك يعدّ حنين بن اسحق أعظم شخصية علمية ظهرت في القرن التاسع الميلادي. لا شك في أن ترجمة المخطوطات العلمية كان بداية انطلاق الإبداع العربي في شتى ميادين العلوم كالطب والصيدلة والكيمياء والرياضيات والهندسة والفلك. ولا يقلّ أهمية عنها ترجمة المخطوطات الفلسفية التي طوّرت الفكر وسلّحته بمنهجية النقد العقلاني، فانتشرت المناظرات العقلية والمجادلات التي أدّت إلى تحوّل العقل العربي في اتجاه المنطق الحرّ. وعلى خطا الأولين، وللعودة لأحد أهم منابع الفكر الفلسفي، ارتأت الهيئة العامة السورية للكتاب، ضمن الخطة الوطنية للترجمة التي أطلقتها وزارة الثقافة في آذار 2013، أن تعيد طباعة مجموعة من أعظم كتب الفلسفة اليونانية التي تصدّت وزارة الثقافة لترجمتها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ولعلّ درّتها دستور الأثينيين للمعلّم أرسطو، والثئيتيتوس لأفلاطون، قام بتعريبهما بلغة سلسة أنيقة علم من أعلام العربية لغةً وفكراً، وأحد رواد نهضتها المتأخرين، الأب فؤاد جرجي بربارة. إن إعادة طباعة بعض من هذه الروائع إنما هو اعتراف بفضل من سبقنا إلى ترجمتها ضمن مشروع ترجمة رائد بالغ الأهمية، وهو تنويه بالقيمة المعرفية لتلك المؤلفات، خاصة في الأزمنة الصعبة، عندما تعصف المحن بالشعوب. فتهتزّ القيم، وتختل موازين الفكر، وتغيم المفاهيم، وتحجُبُ سحبُ الشك شمسَ الحقيقة. نعيش في عصر انتفت فيه الحدود، وتدافعت الأفكار، وتوالدت المفاهيم والمصطلحات وتداخلت إلى حد الإبهام، فضاعت في ضبابية غير بريئة أحياناً، حتى غُرِّبَ الظاهر عن الجوهر، وبات الدّال مجافياً للمدلول، والمعاني مناقضة للألفاظ، والشعار يُخفي نقيضه، والحقيقة في مهبّ رياح النفعية. فما أحوجنا للعودة إلى منابع الفكر الفلسفي وانتهاج نهج المعلّم الأول أرسطو في حمل النفس على سبر أغوارها واكتشاف الحقيقة الكامنة فيها، وصولاً للخصب الفكري القائم على المحاكمة والبرهان، والجمال الأزلي في تلاقي الأضداد وتناغمها، والخلاص بالعلم الذي يُنضِجُ العقولَ وينيرُها بضياء الحكمة، لتشقَّ حُجُبَ الظلام، وتسْلَمَ من السقوط في مهاوي الجهالة. يعلّمنا أفلاطون في حواريات سقراط أن الخير في الحركة، وأن الموت في السكون والجمود والثبات على القديم. وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال التنكر للماضي واحتقاره ومناصبته العداء، بل قراءته قراءة نقدية واستجلاء مواطن القوة فيه للبناء عليها، ومواطن الضعف لتحليلها وتبيان أسبابها لتفاديها. ويزيد أفلاطون فيقول على لسان معلّمه: للحركة قوة الفعل كما أن لها قوة الانفعال، ومن احتكاك النقيضين يولد المحسوس والإحساس بتنوّع صنوفهما وألوانهما. لعلّنا، عند قراءتنا لفلسفة الإغريق، نمعن الفكر في ذاك الاعتراف بمشروعية الاختلاف وسلامة التباين، لا بل بحتمية هذا الاختلاف وضرورة التمايز كدليل وجود وتأكيد كيان، وما التطابق إلا انصهار في الآخر وغياب فيه. وها هو سقراط ينطق بحكمة لو استوعبتها الأذهان وتمثّلتها القلوب، لسَكنَ السلامُ النفوس، وانتفت العصبيات، وزال الغبن والإقصاء، وغاب التنافر والتناحر. يقول المعلّم العظيم حامل السراج المنير لسبيل الحقيقة الكامنة في النفوس: لو كان ما نقيس به ذاتنا أو ما نلامسه كبيراً أو أبيض أو حاراً، ووقع هو نفسه على آخر دون أن يتحوّل، لما أمسى هذا الآخر آخراً. حق الاختلاف هذا ومشروعيته الطبيعية، لا بل وحتميته، هي أساس فكر الحوار الإنساني المحصِّن ضد الخلاف والتنافر والانزلاق إلى الفتن، المؤدي إلى سبل التسامح والتوافق والتلاقي وتقبّل الآخر وإنصافه. مقدمة الهيئة العامة السورية للكتاب جعل أفلاطون من عالِم الرياضيات ثيئيتيتوس محاوراً أساسياً لسقراط، (470- 399) في هذا الكتاب المهم الذي ألّفه أفلاطون (428- 348) ما بين 392 و390ق. م.، وبعيد موت سقراط بسنوات قليلة. وإلى جانب هذين المحاورين، هناك شخصيات ثانوية، وهي إفلكيذِس المِغاري (الذي دوّن ما رواه له سقراط)، والذي راح يقرأ لصديقه الفيلسوف تربسيّون وترك - بعد مقدمة مسرحية موجزة - سقراط يتكلم بصيغة الأنا مع المهندس ثيوذوروس القيرواني (وهو صديق بروتاغوراس، زعيم السفسطائيين)، الذي رأى شبهاً بين سقراط وثيئيتيتوس: أنف أفطس وعينان جاحظتان. وتدور هذه الحوارية حول مسألة العلم (?πιστ?μη). ولا يُقصد بالعلم هنا الفيزياء والكيمياء والعلوم البحتة، بل المعرفة، أو نظرية المعرفة (الإبيسيتمولوجيا)، وهي من المقولات الرئيسية في الفلسفة. ما هو العلم؟ - العلم هو الإحساس (ويتناقش سقراط وثيئيتيتوس مطولاً حول هذا الإسناد)؛ العلم هو الرأي السديد؛ العلم هو الرأي السديد الذي يدعمه البرهان. ويتصدى سقراط لمقولة السفسطائيين حول كل معرفة. ويرى أن الإدراك نسبي. ويختتم أفلاطون حواريته هذه بالقول: -إن كان إدراك المعقولية وإردافها بالرأي القويم، يأمر بالمعرفة وليس باستهداف الفارق المميِّز في الظن والرأي، فهذا الأمر قد يكون وجهاً لذيذاً مستطاباً في أجمل وأبهى قول في العلم-. ويكرر أفلاطون مقولة سقراط القائلة بأن الفلسفة عنده هي فن التوليد (أو القبالة)، وهو فن ورثه عن أمّه، ولكنه نقله من التوليد البيولوجي إلى التوليد الفكري أي توليد الأفكار والمقولات: -أما فن التوليد هذا فقد أحظانا به الله أنا وأمي. فهي للنساء وأنا للشبان النبلاء منهم وكل ذي بهاء- (انظر نهاية الحوارية). لا أريد هنا أن أتعدى على ما قاله الأستاذ: ا. دييس (A. Diès) في تقديم -الثيئيتيتوس-، وهو من أهم الاختصاصيين في الفلسفة الأفلاطونية. بل أريد أن أنوّه بالترجمة الدقيقة والناصعة التي قدّمها الأب فؤاد بربارة - وهي من اليونانية مباشرة- لهذا الكتاب؛ وتفخر وزارة الثقافة بأنها تبنّت في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، وبفضل الأستاذ أنطون مقدسي الذي كان مدير التأليف والترجمة في الوزارة لعقود طويلة، ترجمة مجموعة من كتب الفلسفة الإغريقية التي أنجزها بهمّة جبارة الأب فؤاد بربارة. ويسعد الوزارة، بعد أربعة عقود من صدور هذه الترجمة، أن تعيد طباعتها، رغبة منها في الحفاظ على هذا الكنز الذي قدّمه الأب بربارة للقراء العرب ولعشاق الفلسفة، بلغة عربية ناصعة وبهية. دمشق في 28 أيار 2013 د. جمال شحيّد

تفاصيل كتاب الثيئيتِتُس

التصنيف: المكتبة العامة -> الثقافة العامة
الدار الناشرة: الهيئة العامة السورية للكتاب
نوع الملف: pdf
أضيف بواسطة: Y4$$3R N3T
بتاريخ: 20-10-2018
عدد مرات التحميل: 3
مرات الزيارة: 722

عرض جميع الكتب التي أضيفت بواسطة: Y4$$3R N3T

تحميل كتاب الثيئيتِتُس

اخترنا لك أيضاً

تحميل كتاب اللغة العربية وتحديات العصر لـِ: د. محمود أحمد السيد

اللغة العربية وتحديات العصر

(17)

لـِ: د. محمود أحمد السيد
لم يعد مفهوم اللغة مقتصرا على أنها مجموعة من الأصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم.

تحميل كتاب في العرس الشامي

في العرس الشامي

(10)

اتسمت حياة الدماشقة برقة الحاشية ولطف المعشر ورحابة الصدر والاستغناء والبرّ والت

تحميل كتاب فتى قيبار

فتى قيبار

(6)

قبل أن أبدأ بالحديث عن حياة والدي وفقره، وقصة قهره وذله.. لا بد لي أن أشير إلى ن

تحميل كتاب العولمة وأثرها في العالم الثالث. ناطورية

العولمة وأثرها في العالم الثالث. ناطورية

(5)

تحميل كتاب العولمة وأثرها في العالم الثالث. ناطورية كتب الثقافة العامة - تحميل م

تحميل كتاب الأطفال يحملون الراية

الأطفال يحملون الراية

(0)

الأطفال: يتجمّعون على المسرحِ، بنينَ وبنات، يرفعونَ أمامَهم رايةَ الاتّحاد يتو

تحميل كتاب الطريق من دمشق إلى قرطبة لـِ: محمد عبد الحميد الحمد

الطريق من دمشق إلى قرطبة

(11)

لـِ: محمد عبد الحميد الحمد
يحاول هذا الكتاب (الطريق من دمشق إلى قرطبة)إعادة تاريخ ضائع، The lost History، أ

تحميل كتاب أخضرٌ كالسرير

أخضرٌ كالسرير

(1)

ربيــع آخـــر قَدْ يزهرُ ربيعُ القلب وتصدحُ الأغنية في الأماكن الموحشة، كذ

تحميل كتاب المرأة و الشعر العربي - أيمن اللبدي لـِ: أيمن اللبدي

المرأة و الشعر العربي - أيمن اللبدي

(2)

لـِ: أيمن اللبدي
يقدم الشاعر و الباحث أيمن اللبدي في دراسة تنشر لأول مرة رؤية متعمقة حول المرأة و

تحميل كتاب أسرى سايكس بيكو - د. ثائر دوري لـِ: د. ثائر دوري

أسرى سايكس بيكو - د. ثائر دوري

(2)

لـِ: د. ثائر دوري
في مكان ما من أوربا وفي تاريخ ما من بداية القرن الماضي اجتمع السيدان سايكس و بيك

تحميل كتاب الفيلفس

الفيلفس

(0)

الفيلفس (أو في اللذة) هو الحوار الذي كتبه أفلاطون في آخر أيامه، ويسبق كتاب الشرا

تحميل كتاب مغـامـرات حُمّـص

مغـامـرات حُمّـص

(1)

حُمّص كائن صغير مشاكس، يطرد من كويكبه المسمى بـالبطيخة إلى كوكب الأرض بعد مخالفت

تحميل كتاب المثل الشعبي في منطوقه الزبداني لـِ: إبراهيم علاء الدين - التدقيق اللغوي والتراثي محمد خالد رمضان

المثل الشعبي في منطوقه الزبداني

(7)

لـِ: إبراهيم علاء الدين - التدقيق اللغوي والتراثي محمد خالد رمضان
مقدمة قيثار يصدح تحت أضواء النجوم اللامعة أوتاره الليل، وأنامله القمر يغرّد ألح

أكثر الكتب زيارة وتحميلاً:

أضف كتاباً

سـاهم في إثراء المكتبة العربية

مكتبة ملتقى جامعة دمشق الإلكترونية التفاعلية
أحد مشاريع شركة Shabab SY البرمجية
معا نرتقي...

جميع الحقوق محفوظة لمؤلفي الكتب ولدور النشر
موقعنا لا ينتهك أى حقوق طبع أو تأليف وكل ما هو متاح عليه من رفع ونشر أعضاء الموقع الكرام، وفى حال وجود أى كتاب ينتهك حقوق الملكية برجى الإتصال بنا على [email protected]
الرؤية والأهداف | سياسة الخصوصية | إتفاقية الاستخدام | DMCA