مغارة سكنها البشر من العصر الحجري إلى اليوم مهددة بالزوال
مقالع الحجارة الاسرائيلية تهدد المغارة
رام الله: أسامة العيس
صادق رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود اولمرت على تحريك مسار الجدار الاستيطاني الفاصل مسافة 5 كلم، شرقا عن الخط الأخضر، من اجل أن تدخل في إطاره مستوطنتا «نيلي» و«نعلة»، وسيؤدي المسار الجديد للجدار إلى إيجاد جيبين فلسطينيين يعيش فيهما نحو 20 ألف فلسطيني، سيعزلون عن باقي الضفة الغربية، من بينهم سكان قرية شقبا، ومغارتهم، هذه المغارة التي تعتبر كنزاً أثرياً لم تدخر إسرائيل جهداً من أجل تهميشه ومن ثم ضمه، وكأنها لم تفعل شيئاً يذكر.
عام 1928 فيما الأحداث السياسية تعصف بفلسطين، كانت عالمة الآثار دوروثي غارود، مشغولة بالتنقيب في مغارة ضخمة، تقع في قرية شقبا، غرب رام الله، وفي جوف جبل، يقع على الضفة الغربية لوادي النتوف. وفي حين كانت فلسطين، على موعد مع الصراع والعنف، كانت غارود على موعد مع ما سيجبله لها المجد، وهي تفك غموض جزء من ماضي الشرق القديم، وقد عثرت على ما يؤكد أن الإنسان في العصر الحجري عاش في هذه المنطقة وقدم للبشرية ما اصبح يعرف بالحضارة النتوفية، نسبة للوادي الذي عثر فيه ـ بالإضافة إلى ما عثر في المغارة ـ على أدوات، وبقايا مهمة تعود إلى ما بين 14 ألفا إلى 8 آلاف سنة ق.م.ووادي نتوف في فلسطين، اكتسب شهرة عالمية، في أوساط الباحثين بعد أن نسبت إليه الحضارة النتوفية، التي عرفت في فلسطين وأماكن أخرى، من بحر قزوين (مغارة بلط)، إلى تونس (قفصة)، مروراً بوادي النيل (حلوان)، ومواقع في شمال العراق وسورية والأردن ومغارة جعيتا في لبنان، التي عثر فيها على بقايا نتوفيه. ومن بين ما عثرت عليه عالمة الآثار غارود، أدوات خشبية وعظمية، تعود إلى 10 آلاف ق. م، وفؤوس ومناجل وسكاكين وأدوات بازلتية وصوانية متنوعة.
واستنتجت غارود ان الإنسان النتوفي، كان قصير القامة، مستدير الرأس، مارس الصيد، وانتقل بسرعة من الزراعة إلى حالة الاستقرار، ومن الكهوف إلى منازل من أغصان الأشجار، سقوفها من جلود الحيوانات، وتمكن من تدجين الكلاب.
ولم يثر النتوفيين، اهتمام الاثاريين والمؤرخين فقط، ولكن أيضا الباحثين في العلوم الإنسانية، الذين ذهب بعضهم إلى ان النتوفيين، وضعوا الأساس المادي والفكري الأهم في تطور التاريخ البشري، وأنهم أول حضارة مارست الزراعة. وتوالت الاكتشافات النتوفية، في تل السلطان في أريحا، حيث عثر على بقايا معبد يعود إلى الألف الثامن ق.م، وعثر في مغارة الواد على جبل الكرمل وحولها، على منازل نتوفية ومعبد كبير ولوحة وأدوات زينة، وفي عين ملاحة، قرب بحيرة الحولة، اكتشفت مستوطنة نطوفية مهمة، مساحتها 2000 م2، منازلها مستديرة، مبنية من الحجارة والطين، تحوي مخازن للحبوب، ومواقد للتدفئة والطبخ. وعثر في عين ملاحة على اكثر من 50 ألف قطعة أثرية، منها مناجل وابر وصنانير لصيد الأسماك، وصور لحيوانات كالغزلان. وتبين من كل هذه المكتشفات، ان النتوفيين طوروا معتقدات حول الموت والبعث، يتضح ذلك من وضعهم لما قدروا أنها احتياجات للميت في القبور، مما جعل العلماء يذهبون إلى أن المعتقدات الدينية بدأت مع الحضارة النتوفية.
واهتم النطوفيون بالحياة الأرضية، حيث عثر على ادوات لهم للزينة، واكسسوارات الخرز والفيروز وعظام الحيوانات وغيرها، كما عرفوا الخياطة بالإبر والدبابيس. ويسجل للنطوفيين أنهم عبروا فنيا عن معتقداتهم، واتضح هذا من رسوم ومنحوتات عثر عليها في مستوطناتهم في فلسطين.
هذه الحضارة التي سادت قبل الميلاد بعشرة آلاف عام ، رمزها الأكبر مغارة شقبا، على وادي النتوف. والداخل إلى قرية شقبا الان، التي تحيط بها مستوطنات وطرق التفافية لاستخدامات المستوطنين، يصدمه وجود بوابة عسكرية وضعها الجيش الإسرائيلي على المدخل، ليتمكن من إغلاقه، عندما يشن أية عمليات عسكرية داخل القرية. وليس بعيدا عن المدخل تقع المغارة، وعندما يتخطى الزائر مدخل القرية يصدمه منظر فظيع، وهو وجود تلال من النفايات وبقايا السيارات، وأمور أخرى، تشوه المشهد العام للمغارة ووادي النتوف. ولا تقف المخاطر والتشويهات، للمغارة والوادي على هذه التلال من النفايات، ولكن أيضا إقامة سلطات الاحتلال لمحاجر ومقالع للحجارة، في وادي النطوف، أسمتها (كسارات نتوف)، حيث يتم اقتلاع الحجارة، بآليات ثقلية، مما يشكل خطرا مرتقبا على المغارة. وتتكون المغارة، مما يمكن اعتباره فسحة واسعة، وفي أعلاها توجد فتحة كبيرة، من صنع الإنسان الذي سكنها، ويرجح أنها استخدمت للتهوية، أو أغراض مشابهة، لكنها تستخدم اليوم من قبل أسراب الحمام للدخول أو الخروج من المغارة. وتقول أسماء شلش ابنة القرية بان هذه الفتحة هي «مدخنة لإخراج الدخان ولأغراض أخرى ربما، معروفة في قريتنا باسم الروزنا. والروزنا طاقة صغيرة للتهوية في البيوت القديمة، كما تعرف بالعامية الفلسطينية. وبجانب الفسحة، توجد غرفة رحبة، تشكل عمق المغارة، والى يمين الداخل توجد مغر اصغر فرعية، تشكل غرفا سكنها الإنسان النتوفي الحجري. وحسب شبان من القرية تحدثوا لـ«الشرق الأوسط»، توجد ممرات سرية في المغارة، تنفذ إلى عمق الجبال، استخدمت من قبل الشبان لمطاردة سلطات الاحتلال الإسرائيلي، رغم أن المغارة تقع في مكان يمكن اعتباره مكشوفا أمنيا، للإسرائيليين.
وكتبت على جدران المغارة شعارات، تحيي المقاومة وتندد بالاحتلال. وحسب أسماء شلش فان الثوار الفلسطينيين استخدموا المغارة عام 1936، إبان الثورة الفلسطينية الكبرى على الانتداب البريطاني والصهيونية. ولم تكتف إسرائيل بالمستوطنات ومقالع الحجارة وتلال النفايات، ولكنها تخطط لعزل المنطقة، وحسب ما نشرته الصحف الإسرائيلية أخيرا، فان ايهود اولمرت، رئيس الوزراء الإسرائيلي، صادق على تحريك مسار الجدار الاستيطاني الفاصل مسافة 5 كلم، شرقا عن الخط الأخضر، وذلك من اجل أن تدخل في إطاره مستوطنتا (نيلي) و(نعلة)، وسيؤدي المسار الجديد للجدار إلى إيجاد جيبين فلسطينيين يعيش فيهما نحو 20 ألف فلسطيني سيعزلون عن باقي الضفة الغربية المحتلة، ومن بينهم سكان قرية شقبا، ومغارتهم.
وقال رئيس دائرة شؤون المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية صائب عريقات، إن «الخطوة الإسرائيلية تقوض كل شيء نعمله لإنعاش عملية السلام».
وهذه اللغة التي يتحدث فيها السياسيون، والكلام المكرور لا يفهمه الفلسطينيون، الذين يعيشون ظروفا قاهرة، وبالتأكيد فان النتوفيين يتململون في قبورهم وكهوفهم، ويشعرون بقلق على حضارتهم التي ازدهرت يوما ما في هذا المكان، وتتهددها الان أشياء لم تكن لتخطر على بالهم.
تقول أسماء شلش بان مغارة شقبا، ظلت مأوى للناس طوال آلاف السنين، من النتوفيين إلى العصر الحالي، حيث استخدمت من قبل الثوار والرعاة الفلسطينيين، وتضيف «لأنها كانت دوما مأوى آمنا للبشرية، فقد آن الأوان لنا أن نحميها، وان نحافظ عليها كشاهد على تاريخ البشر وتطورهم».
وكثير من شبان القرية قالوا لـ«الشرق الأوسط»: «هذه المغارة المفترض أنها معروفة في أنحاء العالم، مهددة بالدمار، ولا نعرف لماذا تصمت المنظمات المهتمة بالشؤون الأثرية على ممارسات الاحتلال، أين اليونسكو مثلا؟».