رواية خطايا الآلهة - أدهم العبودي

للمؤلف: أدهم العبودي
يَخرج الجنون مِن قمقمه، ليُعلن للعالم أنّ النبوءةَ نافذةٌ، بدأ الناس يتزاحمون حوله، يلوذون بهالته التي حجبت عنه – في غرائبية ملغِزة- السُّحُبَ والنارَ والدخان، حجبت عنه هذا الأذى غيرَ المسبوق، يهبِطون فوق يده يستمسكون بها، وفيما بين الانتباه والرهبة والفزع العظيم ثغرة، مجرّد لحظة، يستثمرها بنجاح، ويحقن خلالها داخل كل العقول المركزّة والأعين المنتظرة سيادته عليهم جميعاً، وهو مُنْتشٍ، سامقٌ بعباءته السوداء إلى أعلى، شَعره متهدّل، وعينُه الوحيدةُ مكحّلة، كان يصيح: - إنّ رّبكم أولاني عليكم، قدِّسوني. صائحاً، فتتزلزل الأجواء مع صياحه أكثر، ويتهدّم كلّ مَبنى أكثر، ويلتفّ حوله الناس، يحتمون به، يستنجدون، ومِن حوله يتساقط كلّ شيء، وتَختنِق التفاصيل، ويتغطّى المدى بألحفة مِن نار ومِن سخط، والناس إنْ نجا واحد، هرول إليه يتخالط بمن احتمى، حتّى أصبحت هالته مليئةً بالناجين، أولئك الذين لم يُصدّقوا نبوءتَه بدءاً، فتكدّس حوله البشر، ووجوههم تسفِر عن الهلع العظيم، والبرّ كلّه بات حطاماً، رأسه أدناه وقلبه رأسه، والغبار يتطاير، والحديد يعربِد فوق الرؤوس، سياخه تشق الصدور، وتنفد مِن بين الأجسام، وتُهلِك مَن لم يَحتمِ، و»الرائي» لم يزل يصيح: - أنا حاملُ كتابِ النّبي الأول. غفلة مِن قَدَر لم يعُد يستبصر هؤلاء الهالكين، الذين يركضون مِن النار لنارٍ أشدّ، والحطام التهَمَ ما التهم، ولم يُبقِ، ولم يَشبع بعد، الشرارات تحوم في السماء الدانية، و»الرائي» يتلو، والعيون معلّقة عليه، وهو يغمِض عينَه، ويتلو، كيما تزول المَهلَكة، ويرفع يدَه، يمدّها في إيحاء، ثم يبدأ يسْحبِها إليه ببطء، فتزحف نحوَه الكائناتُ طائعة، الثعابين والعقارب والجرذان، ويزحف نحوَه البشر، يشد الجميعَ بمغناطيسية مقدّسة، حتّى يكتمِل تسيّدُه، ويتلو: - «أقسمتُ عليك يا ساكنَ هذا المكان، حيةً أو عقرباً أو ثعباناً أو كائناً مَن كان، تَجيئني طائراً بأمري. تخالِف تموت. بإذني أنا الحيّ الذي لا يموت.» وتَهيم في الفضاء كائناتٌ سكنت جوفَ الأرض ثم أَخرَجَها بتلاوته، تسبَح نحوَه في تؤدة، كما لو أنّها سُحُبٌ لا وزن لها، فيستجمعها بتلاوته أكثر، ويبدو المشهد كأنّ «الرائي» بؤرةُ جذبٍ قادمة مِن غياهب الدهشة، والكائنات على أشكالها سلّمت نفسَها إليه، وتبعت إشاراتِه الطلسمية، ثم شرع جسمُه يترنّح، مثل الذي أتى نشوتَه جميعَها، ولم يؤتَ تسيّده كاملاً بعد، يترنّح، ويبدو كأنّه على نغمٍ لا يسمعه غيره يتراقص، والكائنات على أشكالها تدور حوله، وفق دورانِه بسبّابته، ثم يفرد أصابعَه، فتتوقّف الكائنات عن الدوران. - الأرضُ مِلكي.. والسماء، هبة الكونِ أنا في هذا المنتجَع الجبري المسمّى الحياة، ولو أنّنا استطعنا أن نولّف له مُسمّى جديداً، كمستنقعٍ، مثلاً، أو كمَنفى، ومِن باب الدعابة يمكننا أن نطلق على هذه الحياة مُسمّى أكثرَ حميمية وفعالية، «السيرك»، فما رأيكم؟ ثم راح يدوس على بعض الرؤوس، مكملاً في صلَفٍ وكبرياء: - لماذا أسألكم عن آرائكم؟ وللبدء، إذا عُدنا، فأنا هبة الكون في هذا السيرك، متفرّداً، مَنَحَني مِن قدرته نفحة، ومِن مشيئته كلّ الإرادة، فجعلني المتحدّثَ الأكثر لباقة، والمؤرّخَ الأكثر صدقاً، والمبدِعَ الذي يتشابه بروح الكون أحياناً، ويقلّدها أحياناً أخرى، ويحسدها في كثير مِن الأحيان، ويُخضِع حيواناتِ السيرك، تلك التي لا جدوى تُرتَجَى منها أعظم مِن التسرية على المتفرجين، بل ويذلّل عشوائيتَها وعنفَها وبدائيتَها، ذلك أنا إنْ أجزنا الأنوية، حيث لا موضعَ لغرور، ولا تباهٍ، وإنْ كان هذا مطلوباً ضمناً، لكن في النهاية.. ويصمْتُ قليلاً، برأسه يدور بين العيون الجاحظة، ويرمق بعينه الناسَ التي احتشدت تحت قدميه، والسماء أعلاهم تزوم، وكلّ شيء يستحيل فتاتاً، يتناثر مِن حولهم ندفاً محترقة، يقول «الرائي»: - لكنّي أستطيع كذلك أن أحدّدَ عددَ المتفرجين في ذلك السيرك؛ المسمّى الحياة، وتسعيرة تفرّجِهم على خضوع الحيوانات، واستسلام البشر للمشيئة، ووجوههم الضاحكة قسراً، لأمنحَ روحَ الكون تقريراً وافياً عن معنى الإلوهية وتحقّقِها داخل «السيرك»، الصغير جدّاً، المُضحِك للغاية، جوار الكون الفسيح، وأرجائه التي لا يَصلها عقل، ومجرّاته المليئة بمثل السيرك، كتشبيه، وأكثر. هبة الكون أنا، وعليكم الإقرار، وإلاّ اُضطررتُ لتفعيل سلطتي الممنوحة، بأداة القلم، وسطر المقدّرات، فاتبعوني، إذ قدْ يحلو لي بعض العبث، فأقرّب قيامتَكم قليلاً، أو أؤخّرها، كيفما يتّفق وقدَر السلطةِ الممنوحة. ويصرخ بصوت يشبه الرعد: - أيّها البشر، أطيعوني، استعدوا لمشيئةٍ جديدة. تومِئ الكائنات، ويتكوّم الناس جوارَه في خنوعٍ قسري، فيضمّ أصابعَه على راحة يدِه في حزم، ليتسمّر المشهد بالكامل قبالةَ العيون المحدّقة، كأنّ الزمنَ بأسره قَد توقّف عند هذه اللحظة، الغبار الذي في السماء يتسمّر، المباني المتساقطة تتسمّر، وتظلّ معلّقة، لا هي متهاوية، ولا هي مستعيدةٌ توازنَها، يتوقّف الزمن عند كافّة التفاصيل، إلاّ مَن لاذ برحاب هالته، يستدير نحوَ الناس، تتألّق عينُه، وهو يهمهم: - أنتم الناجون، مَن نبيّكم الآن؟ في صوتٍ جماعي ينبِسون: - أنت.

الأدب العربي -> روايات عربية -> رواية خطايا الآلهة - أدهم العبودي

تفاصيل كتاب رواية خطايا الآلهة - أدهم العبودي

للمؤلف: أدهم العبودي
التصنيف: المكتبة الأدبية -> الرواية - روايات عربية

نوع الملف: pdf
أضيف بواسطة: Y4$$3R N3T
بتاريخ: 20-10-2018
عدد مرات التحميل: 4
مرات الزيارة: 607

عرض جميع الكتب التي أضيفت بواسطة: Y4$$3R N3T
عرض جميع الكتب للمؤلف: أدهم العبودي

تحميل كتاب رواية خطايا الآلهة - أدهم العبودي للمؤلف: أدهم العبودي

اخترنا لك أيضاً

تحميل كتاب أحلام شهرزاد لـِ: طه حسين

أحلام شهرزاد

(1)

لـِ: طه حسين
تنقلنا حكايات «ألف ليلة وليلة» إلى عوالم خيالية، ليس للمنطق أو المعقول فيها من س

تحميل كتاب رواية نداء الوقواق (الجزء الرابع من رباعية الخسوف) - إبراهيم الكوني لـِ: إبراهيم الكوني

رواية نداء الوقواق (الجزء الرابع من رباعية الخسوف) - إبراهيم الكوني

(2)

لـِ: إبراهيم الكوني
نداء «الوقواق» خاتمة رباعية الخسوف، فيها تتجمع عواطف الأحداث وبؤرها بعد توزعها ف

تحميل كتاب رواية الأرقش والغجرية - حنا مينه لـِ: حنا مينه

رواية الأرقش والغجرية - حنا مينه

(1)

لـِ: حنا مينه
في الأرقش والغجرية، كما في جميع رواياته يدخلنا حنا منيه إلى عوالمه السحرية، التي

تحميل كتاب رواية جنات وإبليس - نوال السعداوي لـِ: نوال السعداوي

رواية جنات وإبليس - نوال السعداوي

(1)

لـِ: نوال السعداوي
كان السور عالياً تعلوه الأسلاك، وقطع من الزجاج المكسور كالمسامير، نتوءات الحجر ب

تحميل كتاب رواية ذات - صنع الله إبراهيم لـِ: صنع الله إبراهيم

رواية ذات - صنع الله إبراهيم

(2)

لـِ: صنع الله إبراهيم
ذات» شخصية الروائي صنع الله إبراهيم المحورية والتي انبعثت من زحمة الحياة لتبعث خ

تحميل كتاب رواية كوخ بآخر المدينة - سارة محمد سيف لـِ: سارة محمد سيف

رواية كوخ بآخر المدينة - سارة محمد سيف

(3)

لـِ: سارة محمد سيف
ليست السعادة بالثروة ولا بالخدم هكذا علمها جدها ، إيلين فتاة بسيطة لم تكمل تعليم

تحميل كتاب كيغار لـِ: منى سلامة

كيغار

(1)

لـِ: منى سلامة
تحميل كتاب كيغار.pdf رابط مباشر زهـرة صغيـرة انتُزعت مـن تربتهـا، وتفتحت في أرض

تحميل كتاب رواية ورددت الجبال الصدى - خالد حسيني لـِ: خالد حسيني

رواية ورددت الجبال الصدى - خالد حسيني

(0)

لـِ: خالد حسيني
إنه العصر المغمور بنور الشمس إنهما طفلان من جديد أخ وأخت صغيران وقويان ، مستلقيا

تحميل كتاب صـلاح الـدين الأيـوبي لـِ: جُرجي زيدان

صـلاح الـدين الأيـوبي

(2)

لـِ: جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسل

تحميل كتاب رواية باغندا - شكري المبخوت لـِ: شكري المبخوت

رواية باغندا - شكري المبخوت

(1)

لـِ: شكري المبخوت
بدأت الحكاية على نحو مفاجئ، وانتهت بسرعة دون أن أتمكّن من كشف خفاياها. كان إحساس

تحميل كتاب هيبتا لـِ: محمد صادق

هيبتا

(0)

لـِ: محمد صادق
تأخذنا روايه ( هيبتا ) الي ذلك العالم الذي أهلكه الجميع بحثا .. ذلك العالم الذي

تحميل كتاب رواية المسكون - تامر عطوة لـِ: تامر عطوة

رواية المسكون - تامر عطوة

(2)

لـِ: تامر عطوة
لهبْ . لهبْ ... ... .. لهب لهب لهبْ زيدي يا ناااااار... ... .. لونك دَهَبْ ربى

أكثر الكتب زيارة وتحميلاً:

أضف كتاباً

سـاهم في إثراء المكتبة العربية

مكتبة ملتقى جامعة دمشق الإلكترونية التفاعلية
أحد مشاريع شركة Shabab SY البرمجية
معا نرتقي...

جميع الحقوق محفوظة لمؤلفي الكتب ولدور النشر
موقعنا لا ينتهك أى حقوق طبع أو تأليف وكل ما هو متاح عليه من رفع ونشر أعضاء الموقع الكرام، وفى حال وجود أى كتاب ينتهك حقوق الملكية برجى الإتصال بنا على [email protected]
الرؤية والأهداف | سياسة الخصوصية | إتفاقية الاستخدام | DMCA