.. من أهم ما خلّفه بديع الزمان الهمذاني* " المقامات " .. وهي نصوص أدبية بديعة تتضمن فوائد في اللغة والبيان والعروض وضروب المعرفة أمْلاها على طلابه في نيسابور , وسلك فيها الأسلوب القصصي ليجعلها مُمتِعة بعيدةً عن الجفاف , فجاءت نوعا جديدا من ألوان الأدب ..الإسكَندَري .. أما أسماؤُها فكانت غالباً أسماءَ الأمكِنَةِ التي جرت فيها ..
ومن أطرَفِ هذه المقامات , المَقَامَةُ البَغْدَادِيَّةُ , فلنَستَمتِعْ سوياً بهذه المقلمة الطريفة ..
حدثنا عيسى بن هشام , قال :-
اشتَهَيْتُ الأّزَادَ , وأنا ببغداد , وليس معي عَقْدٌ على نَقْدٍ , فخرجتُ أنتهِزُ مَحَالَّهُ , حتى أحلَّنِيَ الكَرْخَ ..
فإذا أنا بِسَوَادِيّ يسوق بالجُهْد حماره , ويُطَرَّفُ بالعقد إزارهُ ..
فقلت .. ( ظفرنا والله بصيدٍ , وحيَّاك الله أبا زيْدٍ . من أين أقلبتَ ؟ وأين نزلتَ ؟ ومتى وافيتَ ؟ وهَلُمَّ إلى البيت ) ..
فقال السواديّ .. ( لست بأبي زيد , ولكنِّي أبو عُبيْد !! ) ..
فقلت .. ( نعم , لَعَنَ اللهُ الشيطانَ , وأبعَدَ النسيان , أنْسانِيكَ طولُ العهدِ واتَّصالُ البُعْدِ . فكيف حالُ أبيك ؟ أشابٌ كَعَهدِي ؟ أم شَابَ بعدي ؟! ) ..
فقال .. ( قد نبت الربيعُ على دِمنَتِهِ , وأرجو أن يُصَيِّرَهُ الله إلى جنَّتِه . ) ..
فقلت .. ( إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون , ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم .. ومَدَدتُ يدَ البِدارِ إلى الصَّدارِ أريد تمزيقه , فقبضَ السواديُّ على خِصري بِجُمْعِهِ , وقال :- نّشَدتُكَ اللهَ لامَزَّقتَهُ !! ) ..
فقلت .. ( هلُمَّ إلى البيت نُصِبْ غَداءً أو إلى السوق نشتَرِ شِواءً , والسوقُ أقرَبْ , وطعَامُهُ أطْيَبْ . ) ..
فاستفَزَّتْهُ حُمَةُ القَرَم , وعطفَتْهُ عاطِفَةُ اللّقم , وطَمِعَ !! ولم يَعلَمْ أنَّهُ وَقَع !! ..
ثُمَّ أَتينَا شَوَّاءً يتقاطَرُ شِوَاءُهُ عَرَقاً , وتتسايَلُ جُوذاباتُهُ مَرَقاً , فقلتُ :- ( افرِزْ لأبي زيد من هذا الشواء , ثمَّ زِنْ له من تلك الأطباق , وانضِدْ عليها أوراقَ الرُّقَاق ورُشَّ عليه شيئاً من ماء السُّماق ليأكُلَهُ أبو زيدٍ هنيئاً . ) ..
فانحنى الشَّوَّاءُ بساطُورِهِ , على زُبدَةِ تَنُّورهِ , فجَعلَها كالكُحْلِ سَحقاً , وكالطِّحنِ دَقّاً , ثُمَّ جلسَ وجلسْتُ , ولا نَبَسَ ولا نَبَسْتُ , حتى استوفَيْنَاهُ .. وقلتُ لصاحِبِ الحلوى :- ( زِنْ لأبي زيدٍ مِنْ اللَّوْزينَج رِطلَيْنِ , فهُوَ أجْرَى في الحُلوق , وأَمْضَى في العُروق , ولِيَكُن لَيْلِيَّ العُمْر , يَومِيَّ النَّشْر , رقيقَ القِشر , كثِيفَ الحَشْو , لُؤلُئِيَّ الدُّهْن , كَوكَبِيَّ اللّوْن , يذوبُ كالصَّمغِ قبل المَضغِ , لِيَأكُلَهُ أبو زيدٍ هنيئاً . ) ..
قال :- ( فوزَنَهُ , ثُمَّ قعدَ وقعدْتُ , وجَرَّدَ وجَرَّدْتُ حتى استوفَيْنَاهُ .. ثمِّ قُلتُ :- ( يا أبا زيد .. ما أحْوَجَنا إلى ماءٍ يُشَعشِعُ بالثَّلجِ , ليَقمَعَ هذهِ الصَّارة , ويَفثأَ هذهِ اللُّقَمَ الحارَّة .. اجلس يا أبا زيدٍ حَتَّى نأتِيكَ بِسَقَّاء , يأتِيكَ بِشربَةِ ماء !! ) ..
ثُمَّ خرجتُ وجلستُ بحيثُ أراهُ ولا يراني , أنظُرُ ما يَصنَع , فلمَّا أبطَأتُ عليهِ قام السواديُّ إلى حمارِهِ , فاعتَلقَ الشَوَّاءُ بِإزارِهِ , وقال :- ( أينَ ثَمَنُ ما أكَلْت ؟ ) .. فقال أبو زيد :- ( أكَلْتُهُ ضيْفاً !! ) ..
فَلَكَمَهُ لكمة , وثَنَى علَيْهِ بلَطمَة .. ثُمَّ قال الشَوَّاء :- ( هاكَ .. ومتى دَعوْناك !! .. زِنْ يا أخَا القِحَةِ عشرين !! ) ..
فَجَعَلَ السواديُّ يبكي ويَحُلُّ عّقَدَهُ بِأسنَانهِ , ويقول :- ( كم قُلْتُ لِذلكَ القُرَيْدِ أنا أبو عُبَيْد , وهو يقول :- أنت أبو زّيْد !! ) ..
فأنشَدْتُ ..
اعْمَلْ لِرزْقِكَ كُــلَّ آلةٍ .. ولا تَقعُــدَنَّ بِذُلِّ حالَه
وانهضْ بِكُلِّ عزيمةٍ .. فالمَرْءُ يَعجَزُ لا محالَه
بديع الزمان الهمذاني .. أبو الفضل أحمد بن الحسين , أديب عباسي وُلد بمهذان سنة 358 هــ ونشأ بها .. كان خارق الذكاء متوقد الذهن .. تُوفيَ سنة 398 هــ في هراة بفارس ..
1- الأزاد .. من أجود أنواع التمور .. ولعله أراد به الطعام بصفة عامة ..
2- عقد على نقد .. أي ليس معه مال .. مفلس ..
3- محاله .. أي الدكاكين والمحلات التي تبيع الأزاد .. ولعله قصد السوق ..
4- الكرخ .. الجانب الغربي من بغداد ..
5- السواديّ .. الرجل المنسوب للسواد وهي منطقة خصبة جنوب العراق ..
6- يطرف بالعقد إزاره .. كناية عن كثرة وتوافر النقود في صُرَرِ ثوبهِ ..
7- دمنته .. الدمنة من الأثر القديم ويقصد به القبر .. كناية عن قِدَمِ موت والده ..
8- البدار .. المسارعة ..
9- الصدار .. القميص ..
10- بجمعه .. أي بكامل قوته وقبضته ..
11- القرم .. الشهوة إلى أكل اللحوم خاصة ..
12- اللقم .. الأكل السريع ..
13- العرق .. ما يفرز من دهن الشواء ودسمه بتأثير تعرضه للنار ..
14- الجوذبات .. نوع من الخبز يخبز في التنور ..
15- الرقاق .. الخبز الرقيق ..
16- السماق .. شجر تستخدم بذوره تابلا أي في صنع التوابل ..
17- الطحن .. الدقيق المطحون ..
18- نبس .. تكلم ..
19- اللوزينج .. نوع من الحلوى يحشى بالجوز واللوز ..
20- ليليّ العمر .. أي صُنعَ ليلا ..
21- يوميَّ النشر .. أي مصنوع ليومه ..
22- قال .. المقصود هنا عيسى بن هشام ..
23- يشعشع .. يمزج ..
24- الصارة .. العطش ..
25- يفثأ .. يُسَّكِنُها ويكسِرُ حَرَّتها ..
26- هاك .. أي خذ من اللكم واللطم ..
27- القحة .. الوقاحة ..
28- عشرين .. أي عشرين درهما ..
29- القُريّد .. تصغير القرد , ويقصد به عيسى بن هشام ..
30- آلة .. حيلة ووسيلة ..