بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد إخوتي : فقد أحاطتنا الخطوب ، واجتمعت علينا الهموم و الكروب ، حتى ظن أحدنا بأنها سدت جميع الدروب ، وبدأت آخر شمعة أمل تذوي وتذوب ، فانتبهنا من غفلتنا وعدنا لعلام الغيوب ، وسألناه فرجاً عاجلاً .. وفرحاً واسعاً .. يملأ القلوب ، إنه عليٌّ قدير .. رحيم بصير .. فبه نعوذ .. وإليه نؤوب .

ولكثرة ما نوصي بعضنا بالصبر ونحتاج إليه .. عدت إلى بعض المراجع والكتب  وحاولت أن أجمع منها هذا الموضوع الذي أطرحه بين أيديكم ، آملة من الله عز وجل أن ينفعنا به إنه بر كريم .

   

قال تعالى : ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور ) الملك :2
فعلمنا أن الحياة والموت أحد أشكال الامتحان للعبد فهل يحسن صنعاً بالتعامل معهما فينجح بالاختبار ؟
إن الله ليصيب الإنسان بالأمر يكرهه وإنه ليحبه لينظر كيف يستغني بالله عما عداه وكيف يتضرع إليه في نجواه وشكواه .
وقد امتدح الله تبارك وتعالى الصابرين في البأساء والضراء وامتدح الصابرين والصابرات على ما أصابهم وأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر على عبادة ربه وتحمل مشاق الدعوة إليه ، وجعل الصبر والشكر من مصادر الحكمة واستخلاص العبر ( إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) إبراهيم :5


الصبر : هو حبس النفس عن المكروه ، وعقد اللسان عن الشكوى ، والمكابدة في تحمله ، وانتظار الفرج من الله .
وقيل : هو حبس النفس عمَّا تتمنى أو يُشَقُّ .

لقد ذكر الصبر في القرآن الكريم ما يزيد على 90 مرة .

          ( ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفَّنا مسلمين ) الأعراف : 126

و اعلم أن الصبر ثلاثة أنواع : صبرعلى المصيبة ، وصبر على الطاعة ، وصبر عن المعصية . ولكل واحد منها ثواب عظيم .
فالطاعة قد تشق على النفس وعندها ستحتاج إلى الصبر . قال تعالى : ( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ) طه :132
وقال عز من قائل : ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) الكهف : 28
وهنا جاءنا حديث رسول الله صلوات الله وبركاته عليه كالبلسم الشافي : ( ومن يستعفف يعفه الله ، ومن يستغنِ يغنه الله ، ومن يتصبر يصبره الله . وما أُعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر ) متفق عليه
فمن نوى الصبر على طاعة الله ، صبره عليها ، ومن نوى الصبر عن المعصية أعانه الله وعصمه منها .

ولذلك فإن الامتناع عن إتيان المعصية مع توافر أسبابها لمن الأمور التي تحتاج إلى صبر وفير ، وتستلزم مراقبة لله العلي القدير ، الذي خلقنا وسخر لنا الأرض وما عليها لينظر أعمالنا فيها ، قال تعالى : ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيُّهم أحسن عملاً ) الكهف : 7
وقال عليه الصلاة والسلام : ( حُفَّت الجنة بالمكاره ، وحُفَّت النار بالشهوات ) مسلم

أما الصبر على المصيبة فهو أول ما يتبادر إلى أذهاننا عند ذكر كلمة الصبر ، ولا مندوحة من القول بأن لهذا النوع ؛ النصيب الأكبر من الآيات والأحاديث وسأذكر منها :
قوله عز وجل : ( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) العنكبوت 2-3
وقال تعالى مبرزاً حقيقة أن هذه الدنيا هي دار ابتلاء : ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ) محمد : 31
وقال :( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) البقرة : 155-157
لقد ذكر لنا ربنا تبارك وتعالى صوراً من المصائب التي قد تجتاح حياة أي شخص منا وأعطانا البشرى إن صبرنا  فقال :      ( وصلوات من ربهم ) والتي هي السكينة والرحمة .
وعلمنا جل وعلا أن الصبر يحتاج منا الكثير وأنه لا يتأتى لأي إنسان كان : ( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ) الأحقاف : 35
وقال : ( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ) الشورى : 43
وأمرنا بالصبر وجعله مع التقوى من أسباب الفلاح  فقال : ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) آل عمران : 200

ولما كان الصبر على هذه الدرجة من الأهمية ؛ فكان أجره متناسباً مع المجهود المبذول فيه
وكما أكد بقوله ( ولنبلونكم ) فكذلك أكد بقوله : ( ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) النحل : 96
و قال تعالى واعداً الصابرين بالثواب العظيم  : ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) الزمر : 10
وقال عز وعلا : ( استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين ) البقرة : 153
أقول : و لو لم يكن غير هذه الآية بالحض على الصبر ؛ لكانت كافية . فأي شرف للإنسان عند معية الله تعالى له !!!
ولكن الله أكبر وأكرم فقد وعد الصابرين بحبه فقال : (والله يحب الصابرين ) آل عمران : 146

والصبر لازم في كل حال وفي كل زمان ، وهو غريزة في الإنسان تزيد وتنقص ، إلا أنها شأن الغرائز تنمو بالعلم والمران والتجربة .
والصبر من معالم العظمة وشارات الكمال ، ومن دلائل هيمنة النفس على ما حولها ولذلك كان ( الصبور ) من أسماء الله الحسنى ، فهو يتمهل ولا يتعجل ويبطئ بالعقاب إن أسرع الناس بالجريمة ، ويرسل أقداره لتعمل عملها على اتساع القرون ، لا على ضيق الأعمار ، وفي نطاق الزمن الرحب ، لا في حدود الرغبات الفائرة ، والمشاعر الثائرة .
( خُلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون ) الأنبياء : 37
( ويستعجلونك بالعذاب ولن يُخلف الله وعده وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون ) الحج : 47 
ومن فقد الصبر فقد أضاع عمره وفرط في نفائس وقته دون أن يرد ما فات أو يستعيد من مات ، أما من صبر واعتصم بالله سبحانه وتعالى فإنه يأنس بربه الذي يلقي في قلبه الطمأنينة و يغمره بالسكينة ويحيطه بالرحمة ويبدله خيراً مما فقد ، ولم تصب الإنسانية بمصيبة أقسى وأشد من إصابتها بفقد رسول الله صلى عليه الله وآله وسلم ومع ذلك فإن أصحابه وأهل بيته الذين كادت نفوس بعضهم أن تفارقهم لفراق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرعان ما ذكروا الله وأدركوا أن الصبر هو زاد المؤمن وسلامته في المهمات والكروب .

الصبر في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) متفق عليه
وقال : ( من يرد الله به خيراً يصب منه ) رواه البخاري
وقال : ( إن عظم الجزاء من عظم البلاء ، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط ) رواه الترمذي وقال حديث حسن
وقال : ( والصبر ضياء ) رواه مسلم
وقال : ( إنما الصبر عند الصدمة الأولى ) متفق عليه
وقال : ( الصبر نصف الإيمان ، واليقين الإيمان كله ) ابن مسعود
وقال : ( ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) متفق عليه
وقال : ( من كظم غيظاً ، وهو قادر على أن ينفذه ، دعاه الله سبحانه وتعالى على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء ) . رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن
وقد سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس أشد بلاء ً ؟ قال : ( الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل . يبتلى الناس على قدر دينهم . فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه ، ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه . وإن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي على الأرض ما عليه خطيئة ) . ابن حبان
وقال : (يقول الله تعالى : ( ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة ) . البخاري
وقال : (إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة ) .أحمد
حبيبتيه : عينيه

أقوال في الصبر :
قال موسى عليه السلام : إلهي دلني على عمل إذا عملته رضيت عني ، فأوحى إليه : يا بن عمران : رضاي ؛ رضاك بقضائي .
الصبر الجميل : هو أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يُعرف من هو .
إن صبرت ؛ مضى أمر الله وكُتبت مأجوراً ، وإن جزعت مضى أمر الله وكنت مأزوراً .
خير المراكب مركب الصبر ، الصبر يناضل الحدثان ، والجزع من أعوان الزمان . جوهر الإنسان العقل ، وجوهر العقل الصبر ، من تبصَّر تصبَّر .
الاحتمال قبر العيوب .
لا تسأل الله أن يخفف حملك ، ولكن اسأله أن يقوي ظهرك .
الحقيقة أن مجاهدة النفس ستظل حجرالزاوية في كل مراحل الطريق وعلى كل الأصعدة .
غالباً لا نستطيع أن نتحكم بالأحداث لأنها أكبر منا ؛ ولكننا نستطيع أن نتحكم بردود أفعالنا عليها ، فالذي يؤثر علينا ليس ما يحدث وإنما الآثار التي يتركها في نفوسنا .
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( من ظن أنه بدون الجهد يصل فهو متمنٍّ ، والمنى بضائع الحمقى ) .
كل الأعمال العظيمة تم إنجازها على طريقة النمل شيئاً فشيئاً ، بالتدرج ، بالصبر ، بالاستمرار .
إذا كان البحر هادئاً فإن كل السفن تظهر براعة في الإبحار ، العقبات تصنع القادة ، وإذا كان النجاح رخيصاً تخلى عنه أصحابه .
أقصر خطوة يمكن أن نخطوها أفضل من المراوحة في المكان .
العسر مقدمة اليسر، ومن رحم الظلام يولد الفجر، ولن تنبت الحبة إلا إذا دُفنت بالتراب .
الصبر سلاح العباقرة في معارك الإبداع والاختراع .
قال عيسى عليه السلام : ( لن تنالوا ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون )

أسماء الصبر :
الصبر على شهوة البطن والفرج : عفة
الصبر على إخفاء السر : كتمان
الصبر في الحرب : شجاعة ، إقدام
الصبر على احتمال المكروه : ضبط النفس
الصبر في كظم الغيظ والغضب : حِلْم
الصبر في الكماليات : زهد أو قناعة إن رضي باليسير

شعر في الصبر :


بنى الله للأحباب بيتاً سماؤه                  هموم وأحزان وحيطانه الضُّرُّ
وأدخلهم فيه وأغلق بابه                      وقال لهم : مفتاح بابكم الصبرُ



صبراً على نوب الزمان فإنها                مخلوقة لنكاية الأحرارِ
لا يُكسف النجم الضعيف وإنما                يسري الكسوف لرفعة الأقمارِ


وإني لأغضي مقلتيَّ على القذى                وألبس ثوب الصبر أبيض أبلجا
وإني لأدعو الله والأمر ضيق                  عليَّ فما ينفك أن يتفرجا
وكم من فتى ضاقت عليه وجوهه              أصاب لها في دعوة الله مخرجا


وخفَّف عني ما ألاقي من العنا                بأنك أنت المبتلي والمقِّدرُ
وما لأمرئ عما قضى الله مَعْدِلٌ            وليس له عنه الذي يتخيَّرُ


قلبي وجفني واللسان وخالقي              راضٍ وباكٍ وشاكرٌ وغفورُ


فإذا ابتليت بمحنة فاصبر لها              صبر الكريم فإنه بك أكرم
وإذا ابتليت بكربة فالبس لها                ثوب السكوت فإن ذلك أسلم
لا تشكون إلى العباد فإنما                  تشكوالرحيم إلى الذي لايرحم

الدعاء :

اللهم إنك تعلم سرنا وعلانيتنا فاقبل معذرتنا ، وتعلم حاجتنا فأعطنا سؤلنا ، وتعلم ما عندنا فاغفر لنا ذنوبنا ، اللهم إنا نسألك إيماناً يباشر قلوبنا ويقيناً صادقاً حتى نعلم أنه لا يصيبنا إلا ما كتبت لنا ، ورضِّنا بقضائك ، وبارك لنا فيما قُدِّر لنا حتى لا نحب تعجيل ما أخرت ولا تأخير ما عجلت .
اللهم إنا نسألك نفساً مطمئنة ، تؤمن بلقائك ، وترضى بقضائك ، وتقنع بعطائك ، يا أرحم الراحمين .
اللهم ارزقنا حسن التوكل عليك .   
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين . 
             

أمين أمين