كثيرا ما كنا نسمع, أثناء دراستنا الإعدادية والثانويــة, الانتقادات اللاذعة الموجهة لمادة الفيزياء.وكان جـواب أغلب الطلاب على الـسؤال: ماذا تكــره مــــن المــواد؟ الفيزياء. وحتى في حياتنا اليومية تجد أن الكثيــر مـــن الناس يعتبرون الفيزيــاء شيء ما مبهم, غير معروف, والأكثر من ذلك صعب جدا, لدرجة أن الفيزياء أصبحت بصعوبتـها عند الناس –أو بالأحــرى صعوبــة فهمـها- مضرب المثل لكل أمر لا يستطيع أحـد ما إتمامـه رغــم سهولته, فيقـال لـه: "شـو الشغلة فيزيـا؟". والحقيـقة غير ذلك.
فما هي الفيزياء يا ترى؟ ومن أين أتت؟ وما سبب عدم حب الناس –وخاصة الطلاب- لها؟ والأهم من ذلك كله: ما علاقتها بحياتنا اليومية؟
منذ أن وجد الإنسان على سطح الأرض, بدأ يتأمل فــي الأشياء المحيطة بــه, الأرض التـي يعيش عليـها, ثـــم الفضاء الذي يعلو –كمـا يـراه هو- هذه الأرض, والذي تظهر ملامحه جلية أثناء الليـل. وكان يحـاول صياغــة القوانيــن التــي تجعلـه قادرا علــى تفسـيـر الظــواهـــر الكونية وفهمها, فكانت الفيـــزياء.
الفيزيــاء إذا علـم يحاول صيـاغة القوانـين التي تحكــم الظواهــر الكونيــة, وبدايــة الكــون والغايــة مـن ذلك, مستخدمـة القوانيـن الرياضيـة للتعبيـر عـن مفاهيمــها ومبدأ السببية(1) أساسا لعملها, في محاولة للوصول إلى حقيقــة هذا الكــون –وهي أمر نسبي يختلف من عصر لآخر ومن فكر لآخر-
قـد يتساءل البعض: إن هذا الكـلام أقــرب للفلسفة, فمـا عـلاقة ذلك بالفيزيـــاء؟ والجـواب ببساطـة: تمـامـا. إن الفيزيـــاء والفلسفـة وجهـان لعمـلة واحـدة, فقد انبثقت الفيزياء أصلا من الفلسفة الإغريقية القـديمة منذ القرن السادس قبل الميــلاد مع تـالس. فقد اعتــاد القدمـاء أن يضعــوا إطارا منطقيـا وفلسفيــا لتفســير كل شيء. كـل
فيــلسوف –أو جماعـة (مدرسة)- بحسب رؤيتــه لهــذا المنطــق. فمثـلا: قــال تالـــس ومــن بعـده تلميــذه آنــا كســيمندروس : "إن الهيــولى الأوليــة تتحـول إلـى كل المـــواد المألــوفة لدينـــا"(2) ونحـن نعلــم اليوم أن هذه الذرات. بالطبــع هذا لا يعنــي أن جميـع ما قيل في ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- سيأتي شرحه لاحقا .
(2)- اعتبر تالس هذه الهيولى أنها الماء, بينما اعتبرها كسيمندروس شيء ما لا نعرفه, إلا أن الفكرة الأساسية واحدة .
الوقت –وحتـــى بعض ما يقــال الآن- تم إثباتــه علميا,
ولكن هذه الطريقــة هي التــي كانت متبعـة, وســتبقــى دائمـا, فالقانون الفيزيائي –والرياضي بشكل عام- لابـد لــه من أساس منطقـي عقلانـي يبنـى عليـه.
ثم يأتي دور الرياضيـات التي ترتبط بالفيزيـــاء ارتباطا وثيقا (3). فالرياضيـات هي الأداة الطيعـة بيـد الفيزيائـــي والتي يعبـر بها عن شكل القانون الفيزيائي ومضمونه. والكثيـــرون يعتــقـدون أن الفيزيــــاء لا تختلـــف عــن الرياضيــات إلا بكونــها التطبيــق العمــلـي للنـظـريــات الرياضيـة, طبعـا هذا أحد الفروق, إلا أن جوهـر الفرق بين الفيزياء والرياضيات يكمن في مبدأ السببية.فمثلا: يمكــن لكـرة صغيـرة أن تتحـرك في اتجـاه معين بسـبب تلقيــها لدفعــة صغيــرة بطريقــة مــا (شـخص, هـواء, مـاء.....), ورؤيتـنا لكــرة متحركة سـيكون حتما نتيجة دفعــة تلقتـها. أمــا أن تأتـي حـركة الكـرة أولا ثم تليـها الدفعــة ــوكـأنـك تشـاهد شريـطا مصــورا يتحــرك إلـى الــوراءــ فهذا مالا يمكــن أن يتحقق في الفيزيــاء رغم إمكانية تحققه في الرياضيات, وذلك لأمر بسيط بديهــي جـدا, هو الزمـن. الزمن الذي لا يمكن أن يعود أدراجه, وهـو دائما مستمر ومتقـدم فـي اتجــاه واحـد. والســبب ــ فـي الفيزيـــاءــ يجـب أن يتقـدم زمنيـا علــى النتيجة, وعلــى هذا فلا يمكــن للنتيجـة أن تتقـدم علــى الســبب ــ على اعتبار وجود السبب أصلا وإلا فلا وجود لحادثة فيزيائيــة توضع قيد الدراســةــ .
إذا لا يمكـــن للفيزيائـــي أن يكــون فيزيائيـــا ــوخاصة الفيزيائـــي النظـــري ــ إلا إذا كــان رياضيـــا محترفـــا وفيلســــوفا مفكـــرا.
ولمـــا كـانت الحاجــة إلـى الأداة(4) المصنعــة ـــ ســواء للاستخدام المنزلـي أو الصناعـي ــ هي السبب المنطقي وراء صنـاعـــة هــــذه الأداة (الحاجـــة أم الاختـــراع), والرياضيــات هي الوســيلة المثاليـة لمعرفة كيفية عمل هذه الأداة ومدى فائدتها, فإن الفيزياء تكمن في أساس جميــع ما يحيـط بنــا من أدوات, بدءا بألعــاب الأطفــال البسيطة –السـيارة ذات المحـرك- وانتـهاء بالمحطــات الفضائيـة القابعـة في الفضـاء منذ عشـرات السنيـن.
حتى في تركيبة جسدنا, فمركز السيطرة على التوازن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3)- بعض العلوم الرياضية تحديدا علمي التفاضل والتكامل طورت خصيصا لخدمة الفيزياء التي تعتمد بشكل مباشر على المعادلات التفاضلية .
(4)- وأقصد بها الأداة البسيطة والجهاز الضخم والآلة المعقدة .
موجـود فــي آذاننـا, وعضلاتنا تعطينـا القــوة لنتـحرك, وبيدنـا نستطيـع تحـريك أي شيء نستطيـع تحريكـه. هذه المفاهيم: القـوة, التوازن, الحركـة, والتحـريك هي أســاس أحـد أقدم فرعيـن في الفيزيـــاء ألا وهــو علــم الميكانيــك, الـذي أرســى قواعـده بشكل نهائــي العالــم العبقــري إسحـق نيوتن بقوانينـه الثلاثة, والتي نشرها في كتابـه: "المبــادئ الرياضيــة للفلسفــة الطبيعيـــة" منتصـف القــرن السـابع عشر محدثــا ضجـــة علميـــة منقطعـــة النظيــــر.
أما ثاني الفرعين الأقدمين, فهو علم الفلك –الميكانيــك الســـماوي قديمـا-, فشروق الشمس هو معيارنـــا لبدء يـوم جديد, وغيابها هو معيارنا لانتهائه, وتعاقب الليــل والنهــار والفصــول الأربعــة ما هـــو إلا نتيجـة دوران الأرض حــول نفسـها وحـول الشــمس, كما أن تقســـيم الوقت كمـا هو معروف الآن, والجـهات الأربع, كل ذلك يعتمد علـى دوران الكواكب السـيارة حـول النجـوم التي كانت دليل المسافرين طوال العهود القديمـة والوسطـى.
وقد أرسى قواعد هذا العلم أيضا إسحق نيوتــن بقانونه الرابع في الجاذبيـــة الكونيــــة.
وبالعودة إلى تركيب جسدنا نجد آذاننا التـي تحلل وبدقة لا متناهيــة الأمـــواج الصــوتيـــة, فتميــز أصـحابهــــا ومصادرهــا. واليوم واستنادا إلـى هذا المبدأ, واعتمادا علــى علــم الصوت تـــم تصميم جهـاز كشف البصمـــة الصوتيــة المميزة لكل إنسان كبصمــة الإصبع, والــذي يسـتخدم في أحدث التصميمات الأمنيــة للمباني الهامــة والحساســة. كذلك فإن أعيننــا تميـز الألـوان المختلفــة للضوء المرئي, فنستطيع,وبدقـة, معرفـة شكل وماهيـة ما نـراه, سواء كان متحركـا أم ساكنـا. وحديثـا جدا تــم اختــراع كاميـرات تلتقـط بدقــة مقبولــة –وليس كدقــة العين- صـورا للأجسام المتحركــة, معتمدة في تصميــم عدساتها على علم البصريــات. وكل من علمي الصـوت والبصريـــات يكن بالفضل الكبير لإسحق نيوتــن.
في الدائرة الأوسع -منازلنا- هنالك مالا يعد من الأجهزة الكهربائيــة التــي تعتمد علــى الكهربـــاء في تشغيلهـا, وعلــى علــم الإلكترونيــات فــي تصميمـها وصناعتـها. والكهربـــاء لا تنفصل عن المغناطيسيــة, فأينما وجدت الكهربـــاء وجدت المغناطيسيــة -مع فارق أساسـي هو أن الأقطــاب الكهربائيـــة يمكــن فصلهــا أمـا الأقطــاب المغناطيسيـة فلا يمكن فصلها- واستنادا إلى هذه الفكرة استطاع العالـم الفذ جيمس ماكسويـل أن يوحد الكهرباء والمغناطيسية في فرع واحد هو الكهرطيسية, فقد أنشأ البنيان الرياضـي للفرع الموحــد, وتنبـأ عبـره بوجــود الأمـواج الكهرطيسيــة –والـذي يعتبـر الضوء المرئــي جزءا منـها- وبعد سبع سنـوات فقـط, استطــاع العالـــم اللامـع هنـري هرتـز أن يولد هذه الأمواج في مخبره(5), وأن يحقق نبوءة ماكسويــل(6). ويعتمد التلفاز والراديـو وحديثــا الهاتـف الجوال -بالمـبدأ- علــى بث واستقبــال الأمـواج الكهرطيسيــة, وتصنع هـذه الأجهــزة جميعهـا اعتمــادا علــى علــم الإلكترونيــات, وتشـغـل بواســطة الكهربــــاء.
كما لا يخلو أي منزل تقريبا من براد ومكيــف, وهــذان الجهازان يعتمدان على مبدأ كارنـو في التبريد بواسطـة الغاز, المستند إلـى علــم الترموديناميــك –علم الحرارة والتحريـك الحراري- وقوانينــه الثلاثــة.
وإذا خرجنا إلـى الشارع والمدينـة, وجدنـا مالا يحصـى مــن التطبيقــات الفيزيائيـــة. فوسـائــل نقلنــا وسفرنــا -السيارات, القطارات, الطائرات, والسفن- تعتمد علــى علـــم الميكانيك. وفــي الطب أحدث اختـراع المجهــر الضوئــي ثم الالكترونـــي قفــزات هامــة فــي اكتشـاف الجراثيم والمصول المضادة لـها, وكذلك في تحليـل الدم والبول لتشخيص الأمـراض المختلفــة, كما لا تخلـو أي مستشفى من أجهزة الكشف بالأشعة السينية (X-Ray) والرنيـن المغناطيسـي (MRI), وأجهزة كشف ومعالجة الأورام السرطانيــة (Pet Scan)-أشعــة كهرطيسيــة- وأجهــزة التصـويــر بالإيكــو (Echo Graph) -صـدى الأمــواج الصوتيـــة-
وتمتلـئ المــدارات الخارجيــة للغـلاف الجوي بالأقمــار الصناعيـة المتعددة الأهداف والاستخدامـات, فمنـها مــا يستخدم فــي الإعلام, ومنـها ما يستخدم لرصد جغرافية الأرض ومعرفــة أحـوال الطقس والمنــاخ, ومنــها مــا يستخدم للتجســس وتحديـد المواقـع والأهـداف. جميــع المعلومات المرسلة من القمر الصناعي, ترسل محمولة علـى الأمـواج الكهرطيسيــة, وثبـات القمــر الصناعــي في مـداره وحركتـه حـول الأرض يعتمدان على علـم الميكانيــك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5)- كان اختراع هرتز لا يقدر تجاريا بثمن, فقد استولى عليه ماركوني وحقق من خلاله ثروة طائلة –الراديو تلغراف- رغم علم هرتز .
(6)- للأسف لم يعش ماكسويل هذه المدة ليرى تحقق ما تنبأ به .