الزرادشـتيـة
من أوائل الأمم التي قالت بالتناسخ والحلول هي المجوس التي قالت بالتثنية ومحصل قولها: إنها أثبتت مدبرين قديمين يقتسمان الخير والشر، والنفع والضر، والإصلاح والفساد، وهذان الأصلان هما (يزدان وأهرمن) وتعني (النور والظلمة). وكل شيء عندهم يدور وفق قاعدتين، الأولى كيفية امتزاج النور بالظلمة، هذا هو المبدأ والقاعدة الثانية سبب خلاص النور من الظلمة وهذا هو المعاد.
لقد تأمل زرادشت بمنشأ الشر وسبب الألم، فوجد نفسه أمام ثنائية الألوهة المشطورة. من ناحية يقف الإله الخير "أهور مزدا" وفي ناحية يقف الإله الشر "دروج"، ولكل من هذين الإلهين قدرة على الخلق، فكلاهما قد خلق ما شاءت له الطبيعة من خلق بسببه تتسم هذه الطبيعة بطابع التضاد وتنقسم إلى مظهري الخير والشر.
هذه الفلسفة الزرادشتية في تثنيتها ليست كالتثنية الأولى للدين المزدي، وإنما هي تثنية تنقسم إلى وحدة خيّرة تجعل المنشأ الخير وتهوي بالشر في النهاية إلى هوة العدم، وبالتالي ليست هي تثنية صحيحة بمعناها الصحيح، لأن الذي أوجد الوجود هو "الخير" وأما الشر فسيمحى وسيفنى، ولهذا تنفصل انفصالاً تاماً عن الثنائية المزدية.
الزردشتية هي عقيدة دينية تتمحور حول ألوهة إله واحد مطلق عالمي ومجرد، وقد جاء ذلك على صفحات الـ"أفت" حيث ينبعث صوت زرادشت عبر سطور الـ"جاتها يآسنا" يناجي الإله " أهور مزدا".
إني لأدرك أنك أنت وحدك الإله وأنك الأوحد الأحد، وإني من صحة إدراكي هذا أوقن تمام اليقين من يقيني هذا الموقن أنك أنت الإله الأوحد.. اشتد يقيني غداة انعطف الفكر مني على نفسي يسألها: من أنتِ؟
ولفكري جاوبت نفسي؛ أنا؟ إني زرادشت أنا، وأنا؟ كاره أنا الكراهية القصوى الرذيلة والكذب، وللعدل والعدالة أنا نصير!
من هذه أتفكّر الطيبة التي تحوم في خاطري، ومن هذا الانعطاف الطبيعي في نفسي نحو الخير، ومن هذا الميل الفطري في داخلي إلى محق الظلم وإحقاق الحق أعرفك.
من هذه الانفعالات النفسية والميول الفكرية التي تؤلّف كينونتي وتكوّن كياني ينبجس في قلبي ينبوع الإيمان بأنك أنت وحدك أهورا مزدا، الإله وأنك الأوحد الأقدس الخيّر الحق!!!