عن الرجال والبنادق
تسع لوحات كما قال غسان
غ ك
مجموعة تسطر الألم الفلسطيني والأمل الفلسطيني والعنفوان والصمود
هذا مذخلها اردت ان تشاركوني الإبحار بين سطورة الغارقة في الهديان
إليكم المدخل
:
نمت متأخرا جدا ، كان كاتب صيني اسمه( سان تسي )، عاش قبل الميلاد بعدة مئات من السنين , قد اجتذبني تماما وفك تعبي واصطاد انتباهي على ان ذلك كله خارج الموضوع الدي ساكتب عنه وكتب يقول ان الحرب حيلة . ان الانتصار هو ان تتوقع كل شيء ولا تجعل عدوك يتوقع . كتب يقول ان الحرب مفاجئة . كتب يقول ان الحرب سطوة معنويات . كتب يقول..
ولكن دلك كله خارج الموضوع .
نمت متأخرا جدا ، ودق الهاتف باكرا جدا ، كان الصوت على الطرف الىخر منتعشا تماما , يقظا , يكاد يكون مرحا , فخورا, ليس في طياته أي شعور بالدنب. قلت لنفسي – وانا نصف نائم – هذا الرجل يصحو باكر. لاشيء يشغله بالليل .
كانت الليلة ممطرة وراعدة وعاصفة ، ترى ماذا يفعل – في متل هذه الظروف – الرجال الدين يزحفون تحت صدر العتمة ليبنوا لنا شرفا تظيفا غير ملطخ بالوحل ؟
كان الليل ماطرا , وهدا الرجل على الطرف الىخر من الهاتف..
ولكن دلك كله ، ايضا خار الموضوع .
قال لي لدي فكرة ، سنجمع ألعابا للأطفال ونرسلها الي النازحين في الأردن ، إلى المخيمات , انت تعلم , هده ايام الأعياد) كنت نصف نائم . المخيمات . تلك اللطخات على جبين صباحنا المتعب , الخرق البالية التي ترف متل رايات هزيمة , المرمية بالمصادفة فوق سهوب الوحل والغبار والشفقة . كنت اعلم دات يوم في واحد منها , وكان احد تلاميدي الصغار يدعى درويش .. كان يبيع كعكا بعد الدوام , وكنت اطارده بين الخيام والوحل والصفيح وبرك الوحل لأحمله الى الصف الليلي . كان شعره جعدا قصيرا مبتلا دائما . وكان دكيا جدا , احسن من يكتب موضوع إنشاء في الصف. لو كان يجد ما يطعم به نفسه يمداك لإنبتق منه نابغة , كان المخيم كبيرا , وكانو يسمونه..
ولكن هدا كله خارج الموضوع
قال لي الرجل على الطرف الآخر من السلك : (مشروع ممتاز , اليس كدلك ؟ ستساعدنا . نريد حملة اخبارية في الصحيفة , انت تعلم ). وانا نصف نائم قفزت الى راسي الجملة المناسبة :
المخيمات موحلة , وفساتين هذا الموسم قصيرة . ولكن الأحذية دات الأعناق الطويلة بيضاء , وامس مزقت خبرا وصورة : الحسناء فلانة كانت تسهر في الملهى الفلاني , اسقط الشاب الدي
يجلس معها كأسه على فستانها فدلقت القنينة على بدلته قلت : ثمنها 100 ليرة على الاقل , قلت هذا الثمن..
ولكن هذا كله ايضا خارج الموضوع.
قال لي متابعا(( سنضعها في علب من الورق المقوى, وسنجد شاحنات تنقلها مجانا وسنوزعها هنالك مغلقة ستكون مفاجئة))
الحرب مفاجئة ايضا . هكذا قال الكاتب الصيني الذي عاش قبل الميلاد ب 500 سنه, كنت نصف نائم غير قادر على كبح الهديان احيانا تاتيني هذه النوبات خصوصا حين اكون متعبا واعجز عندها عن تصديق عيني انظر الى الناس واتسائل : ايمكن ان تكون هذه هي وجوهنا حقا ؟ كيف استطعنا ان ننظفها بهذه السرعة من الوحل الذي طرشه حزيران فوقها ؟ اصحيح اننا نبتسم ؟ أصحيح..
ولكن هذا ايضا خارج الموضوع.
قال لي وسماعة الهاتف تنزلق من يدي: ((سياخد كل طفل في صباح العيد لعبته المغلقة ، وداخلها لعبة مجهولة . حظه. )) سقطة السماعة وحملتني الوسادة إلى ما قبل 19 عاما
عام 1949.
قالو لنا يومئد : سيوزع الصليب الأحمر عليكم هدايا العيد
كنت طفلا ، تمتلك سروالا قصيرا وقميصا من الكتان الرمادي ، وحداءا مقطعا دون جوارب. كان اقسي شتاء شهدته المنطقة في عمرها، وحين اخدت امشي ذلك الصباح تجمدت أصابع قدمي وكساها ما يشبه الزجاج الرقيق . جلست على الرصيف وأخدت ابكي ، وعندئد جاء رجل وحملني إلى دكان قريب.
كانو يشعلون النار في خشب يضعونه في علبة صفيح ، وقربوني منها دفعت قدمي إلى اللهب وغطست فيه . ثم اكملت مشواري الى مركز الصليب الاحمر راكضا ووقفت مع مئات من الاطفال ننتظر دورنا
كانت العلب تبدو بعيدة وكنا نرتجف كحقل من القصب العاري ، ننط كي تضل الدماء تجول في عروقنا . وبعد مليون سنة جاء دوري ، فناولتني الممرضة النضيفة علبة حمراء مربعة.
عدوت الى البيت دون ان افتحها . الآن بعد 19 سنة لست ادكر على الإطلاق ما كان يوجد في تلك العلبة الحلم ، الا شيئا واحدا ، شيئا واحدا فقط : علبة حساء من مسحوق العدس.
تمسكت بعلبة الحساء بكلتا يدي المحمرتين من البرد ، وضممتها الى صدري امام عشر اطفال هم اخوتي وبعض أقاربي اخدوا ينظرون إليها بعشرين عينا مفتوحة على سعتها .
وكان في العلبة ـ بلا ريب ـ لعبة اطفال رائعة ، ولكنها لم تكون لتؤكل ، وقد اهملت ثم ضاعت . وضلت علبة الحساء معي اسبوعا ، اعطي امي منها كل يوم عبو كأس من الماء كي لا أدكر شيئا سوى البرد . والجليد يكبل اصابع قدمي ، وعلبة الجساء.
وكان صوت الرجل الدي يصحو باكرا ما يزال يطن في راسي دلك الصباح الرمادي المتعب , حين اخدت الأجراس تدق في فراغ مروع ,وكنت اعود من رحلتي القصيرة الى الماضي الذي ما يزال ينبض في راسي ، وكنت ...
ولكن هذا كله ايضا خارج الموضوع !
غسان كنفاني
كانون1- 1968