وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى
وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ
إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
الشيء الأوَّل بعد الإيمان بالله وعدم
الإشْراك بِرُّ الوالِدَيْن ! وحرْف العَطْف يَقْتضي المُشارَكَة، فأنت لا
تقول: اشتريت بيْتًا ومِلْعَقَة ! هذا كلامُ مَجانين، ولكن تقول:
اِشْتَريْتُ بيتًا وأرْضًا، بيْتًا ودُكَّانًا، أو تقول: اِشْتريْتُ ملعقةً
وشَوْكةً، أو صَحْنًا ومِلْعقَة، فالعَطْف يقْتضي المُشاركة، فالله عز وجل
قال:
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ
أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا
تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا(23)﴾
[سورة الإسراء]
رفعَ الإحْسان إلى الوالدَين إلى مرْتبة الإيمان بالله فأوَّل شيء بعد الشِّرك طاعة الوالدَين، قال تعالى:
﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا
بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى
وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ
إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)﴾
[ سورة لقمان ]
مَن هو الموصِي ؟ هو الله، فهذه التي أمامك
أُمُّك وهِيَ سببُ وُجودِكَ في الحياة، وهي التي كانت تَجوعُ لتأْكُلَ،
وتسْهَر لِتَنام، وتمْرض لِتَشْفى، فَبَعْدَ أن أصْبَحْتَ قَوِيًّا
وتَزَوَّجْتَ امرأةً، تراها عِبئًا عليك وتتمنَّى أن تُخْرِجَها مِن
بيْتِك وتتمنَّى أن تموت، فهذا هو مُنْتهى الكُفْر لذلك العاق ليس فيه خير
إطلاقًا، والإنسان لا يُشارِك العاق، فلو كان فيه الخَيْر لكان
لِوَالِدَيْه.
قال تعالى:
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾
[ سورة لقمان ]
هذا الطِّفْل الصغير بِحاجَة إلى كِلْس وهو لا
يسأل، فإمَّا أن تأكُل أُمُّه طعامًا فيه كالسيوم، وإمَّا أن تشْرب الحليب
وتأكل الجُبْن، فإذا لم تفْعَل ذلك أخَذَ مِن عظْمِها، ويكْتَمِلُ نُمُوّ
الجنين على حِساب بُنْيَة أُمِّه فإن لم تأخُذ الطَّعام المُغَذِّي امْتصَّ
الجنين الكِلْس الذي هو بِحاجَةٍ إليه مِن أسنانِها وعِظامِها، فالذي
عندهُ زوْجة، وهي حامِل ؛ موضوع نَوْع الغِذاء مُهِمّ جدًّا، وإلا يدْفَع
أربعة أمثالهِ دواء ! فالعِلْم يلْتقي مع الدِّين حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
وهْنًا على وَهْنٍ وفِصالُهُ عامَيْن، قال تعالى:
﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ(14)﴾
[ سورة لقمان ]
هنا توجَد قاعِدة ؛ إن جاءَكَ خيْرٌ مِن
إنسانٍ، فمَن الذي عليك أن تشْكُرَهُ ؟ عليك أن تَشْكُر الواحِدَ الدَّيان،
وثانِيًا عليك أن تشْكُر هذا الإنسان لأنَّه مُخَيَّر، ومَن لم يشْكُر
الناس لم يشْكُر الله ! هناك مَن يقول: لا فضْل لأحَدٍ عليّ إلا الله فهذا
جُحود، فلا ينبغي أن تجْحَدَ أُمَّكَ وأباك، ولا أن تجْحَدَ مَن كان له
فضْلٌ عليك، فلا يتناقضُ شُكْر الإنسان مع شُكْر الله تعالى، قال تعالى:
﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)﴾
[ سورة لقمان ]
لكنَّ الله عز وجل ما أمرَنَا أنْ نعبُدَ الوالِدَين مِن دون الله، فالآية دقيقة قال تعالى:
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ
أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا
تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا(23)﴾
[سورة الإسراء]
فالإحْسان للوالِدَين، والعِبادة لله تعالى
أما هذا الذي يُطَلِّق زوْجَتَهُ لأنَّ أُمَّهُ أمرَتْهُ بِهذا فهذا
عبدَها مِن دون الله، فلو أنَّ الزَّوْجة مُسْتقيمة وطاهِرة وعفيفة، ولكنَّ
الأمّ تُريد امرأةً أخرى تفْتخِرُ بها، فإن لم يُعْجِبْها هذا الزَّواج،
وأمرَتْ ابنها بِتَطْليق زوْجتِهِ، وطلَّقَها ! معنى هذا أنَّهُ عبَدَها
مِن دون الله تعالى، لذلك لا طاعة لِمَخلوق في معْصِيَة الخالق، قال تعالى:
﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ
لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا
مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ
مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)﴾
[ سورة لقمان ]
فالأمّ والأب أحْيانًا يفْرِضان على الابن
المُتَزَوِّج سُلوكًا خِلاف السنَّة، هكذا أبي يريدُ، وهكذا نشأنا، وهذه
هِيَ تَرْبِيَتنا ! وكأنَّ تَرْبِيَتَهم مِن مصادِر التَّشْريع ! هناك شرْع
من القرآن والسنَّة، فَكُلّ إنسانٍ ينْصاع إلى أوامِر والِدَيْهِ فيما
يُغْضِبُ الله تعالى، فهذا قد أشْرَكَ وعبَدهُما مِن دون الله تعالى، والله
سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ
لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا
مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ
مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)﴾
[ سورة لقمان ]
قالتْ أمُّ سيِّدنا سَعْد: إمَّا أن تكْفُر
بِمُحَمَّد، وإمَّا أن أدَعَ الطَّعامَ حتَّى أموت !! خِيارٌ صَعْب، فقال
لها: يا أُمِّي لو أنَّ لكِ مائة نفْسٍ فخَرَجَت واحِدَةً واحِدَة، ما
كَفَرْتُ بِمُحَمَّد، فَكُلي إن شئْتِ أو لا تأْكُلي ! أمور الدِّين لا
يوجد فيها مُجاملات، وأنْصاف حُلول، فإن أمرَتْكَ بِمَعْصِيَةٍ فإنَّهُ لا
يُعْتَدُّ بِغَضَبِها إطْلاقًا، وكذا الأب، قال تعالى:
﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ
لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا
مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ
مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)﴾
[ سورة لقمان ]
أنا لا أتكلَّمُ مِن فراغ، فَعِنْدي مئات
القِصص عن آباء وأُمَّهات أجْبروا أولادهم على المَعْصِيَة، فَمن انْصاع
لِوَالَدْيه لِيَعْصِيَ الله تعالى فقد أشْرَكَ، وعبَدَ والِدَيه، أما
بِأُمور الدنيا، أطْعِمْهُما واكْسوهما مِمَّا تكْتَسي، وأيُّ طلبٍ
دُنْيَوي نَفِّذْهُ لهما، وأنت في طاعة الله، أما إذا أمراك بالمَعْصِيَة
فلا طاعة لِمَخلوق في معْصِيَة الخالق.
وبالمناسبة، أنت حينما ترْفض طَلبَهُما، لا
تَكُنْ عنيفًا، فَبِكَلامٍ لطيفٍ وأنت ترْفُض طَلبَهُما، فلا تَكُن قاسِيًا
معهما، صاحِبْهُما في الدنيا مَعْروفًا، ونحن عِندنا ولاء واتِّباع، قال
تعالى:
﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)﴾
[ سورة لقمان ]
تتَّبِعُ المؤمنين وتُوالي أُمَّك وأباك، فالولاء شيء والاتِّباع شيءٌ آخر قال تعالى:
﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)﴾
[ سورة لقمان ]
ولاؤُكَ لله ولِرَسوله وللمؤمنين، فالأُمّ
والأب لهما ولاء لِفَضْلِهما عليك أما الاتِّباع فَهُوَ لله تعالى
ولِرَسولِهِ، ولِمَن أناب إلى الله تعالى، فأنت مع الله ورسوله والمؤمنين
تُوالي وتتَّبِعُ، ومعك الوالِدَين ولاءٌ دون اتِّباع.
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
لي عودة باذن الله تعالى