في ظلال الهجرة الشريفة (1)
أقدار الرجال..
بقلم : عمر غوراني
و إذا قلت : أقدار الرجال ، فإنما أعني و أقدار النساء كذلك ، فإن من النساء من ذوات القدر من كتب التاريخ سِيرهنّ بأحرف من نور ..
تروي السيرة الشريفة العطرة أنّ الذين رَووْا أوصاف نبينا الكريم ( صلى الله عليه و سلم ) من الصحابة إنما هم الصّبيان . أما كبارهم و مُسنّوهم ، فإنّ مهابة الرسول (صلى الله عليه و سلم) و جلاله كانا يمنعانهم من التفرّس في وجهه الشريف .. فهو، كما قال الفرزدق في سبطه الحسين – رضي الله عنه - :
يغضي حياءً و يُغضى من مهابته // فلا يكلم إلا حين يبتسم .
و لذا ، كان بعض الناس إذا وقف في حضرته الشريفة ، تأخذه مهابة الموقف، حتى ترى واحدهم يتغيّر لونه أو يرتجف مهابة ، فيهدّئ – بأبي هو و أمي – من روعه ، قائلاً : ( هون عليك فإنا لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد ) (1)
و تروي السيرة المطهرة ذاتها ، أنه (صلى الله عليه و سلم ) أوذي أيّما إيذاء ، بصنوف من الأذى .. فقد أوذي أحبّ الخلق إلى الخالق ، في أحبّ البقاع إلى الله و هوم أقرب ما يكون من ربّه ؛ لقد وُضع على ظهره سلا الجزور(2) – و حسبك به من قذر - و هو ساجد عند الكعبة المشرفة .. بل لقد أُغرِي به السفلة والسفهاء فرجموه – بأبي هو وأمي- حتى أدموه ..
_ فهل تُرى في الروايات من تناقض أو تعارض .. ؟
_ كلا ، لا تعارض بين هذه و تلك ، لا بالرواية و لا بالدراية ، لا نقلا و لا عقلا .. و إنما التّناقض و التّعارض بين معادن الرجال و صنوف البشر .. بين كرام الناس ذوي المروءات و الشّهامة و علوّ النفس و بين أراذل الخلق و سقطهم و سفلهم و حثالتهم ..
و لا أعني – بالضرورة – بين مؤمنهم و كافرهم .. فثمة من الكفرة المعاندين من تأبى عليه مروءته و شهامته أن يتعرض للكرام بمهانة أو يهمّ بها .. فقد قيل :إنّ أحد أشراف قريش ممن حاصروا بيت النبي ( صلى الله عليه و سلم ) يريدون قتله ، قد انتهر من تسوّر على النبي بيته ، كيلا تُكشَف أستار بنات العم ..
مثل هذا الجاهلي ذي المروءة الشهم ، أكاد أقطع جازما ،ً أنّه – و أضرابه من ذوي الشهامة و إن جهلوا – ما تعرّض للوجه الشريف بمهانة ، و لا حاولها أو أمر بها ..
و لذلك قيل : " إنما يعرف فضل ذوي الفضل أولو الفضل " .
***
طبت حيّاً و ميْتاً يا رسول الله !
إنّ في سيرتك المطهّرة – حتى في الذي نأسى له منها و نأسف – عبرة ً و سلوى ..
هذه هي الحياة ؛ لا بدّ أن تلقى فيها كرام الناس و لئامهم .. من يحفظ أقدار الناس ، و من – لمهانته و هوانه على نفسه – يهون عنده كل شيء ..
فمن صادف من سفلة الناس و حثالتهم، و لقي من أذاهم ما أحزنه ، ثم رأى- في نفسه - أنه أحبّ إلى الله من محمد ( صلى الله عليه و سلم ) أو أنه على الله منه أكرم ، و أنه من سيرته الشريفة - حاشاه – أنقى و أطهر ، فضاق بأذاهم و تسخّط أو تضجّر ، و تمنى على الله ألا يكون مثل هؤلاء قد لقيهم أو رآهم أو مرّوا في حياته، فليتخذ نفقاً في الأرض أو سلّماً في السماء ، أو فليذهب إلى الجحيم .. !!
هوامش :
(1) أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم رجلا فأرعد فقال هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد
الراوي: عبد الله بن مسعود المحدث: المزي - المصدر: تهذيب الكمال - الصفحة أو الرقم: 2/141
خلاصة حكم المحدث: صحيح
(2) بينا النبي صلى الله عليه وسلم ساجد ، وحوله ناس من قريش ، جاء عقبة ابن أبي معيط بسلى جزور ، فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يرفع رأسه ، فجاءت فاطمة عليها السلام فأخذته من ظهره ودعت على من صنع ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم عليك الملأ من قريش ، أبا جهل بن هشام ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأمية بن خلف ، أو أبي بن خلف ) . - شعبة الشاك - فرأيتهم قتلوا يوم بدر ، فألقوا في بئر غير أمية أو أبي ، تقطعت أوصاله ، فلم يلق في البئر .
الراوي: عبدالله بن مسعود المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 3854
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]