يقول العلماء : إن لله خواص ، في الأماكن والأزمان والأشخاص : فمن خواص الأماكن مثلا : مكة والمدينة . ومن خواص الزمان مثلا : شهر رمضان ، وليلة القدر منه . ومن خواص الأشخاص مثلا : الأنبياء والمرسلون عليهم الصلوات والسلام . وفي هذه المقالة نذكًّر بفضائل ليلة القدر التي اختصها الله سبحانه من عموم الزمان بمزيد الفضل والبركة ، ملخصين مظاهر فضلها فيما يلي : 1 - سمى الله سبحانه هذه الليلة الشريفة بليلة القدر تنويها بشرفها وإشارة إلى أوجهه وأسبابه : وذلك اعتبارا بأنها إنما سميت كذلك لثلاثة أسباب فيما ذكره العلامة ابن عثيمين رحمه الله : أولها : لأن لفظ القدر من معانيه : الشرف ، ومنه قولك : فلان ذو قدر . فحيث كانت هذه الليلة شريفة ، فقد سميت بهذا الاسم تنويها بشرفها .
وثانيها : لأن لفظ القدر يقصد به : المقادير المكتوبة : لأنه يُكتب فيها ما سيجري من السنة إلى السنة التالية من الآجال والأرزاق : ولكنه - كما قال ابن عباس رضي الله عنهما - يُكتب من أم الكتاب ويظهر للملائكة ، ولا تحدث كتابته لأول مرة : لأن الله سبحانه قدر المقادير قبل خلق السماوات والأرض . وهذا المعنى الثاني هو ما يؤكده قوله سبحانه عن ليلة القدر :"فيها يفرق كل أمر حكيم". وقوله تبارك وتعالى :"تنزل الملائكة والروح فيها ، بإذن ربهم من كل أمر".
وثالثها : لأن للعبادة فيها قدرا عظيما : لقوله صلى الله عليه وسلم :"من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا ، غفر له ما تقدم من ذنبه"رواه البخاري ومسلم .
2 - أنها الليلة التي أنزل الله سبحانه القرآن فيها : وهو قوله سبحانه :"إنا أنزلناه في ليلة القدر". ومن ثم فهي أشرف ليلة ، نزل فيها أشرف كتاب ، لأشرف نبي ، في أشرف أمة .
3 - أنها ليلة نص الله سبحانه على أنها مباركة : وذلك قوله تبارك وتعالى :"إنا أنزلناه في ليلة مباركـة".
4 - أنها ليلة فضلت العبادة فيها على غيرها في الأجر والمثوبة : لقوله سبحانه :"ليلة القدر خير من ألف شهر".
5 - أنها ليلة تتنزل الملائكة فيها إلى الأرض بالخير والبركة والرحمة والمغفرة . قال تعالى :"تنزل الملائكة والروح فيها .."والروح هو جبريل عليه السلام .
6 - أنها ليلة السلام : لقوله تعالى :"سلام هي حتى مطلع الفجر"والسلام هنا على ثلاثة معان : أحدها : السلامة من كل العذاب والشر ، فلا يحدث فيها حدث ، ولا يرسل فيها شيطان .
والثاني : الخير والبركة .
والثالث : سلام الملائكة على المؤمنين : حيث تسلم الملائكة عليهم في هذه الليلة الشريفة إلى مطلع الفجر . وقد رجح ابن العربي المالكي حمل لفظ السلام في تلك الآية الكريمة على هذه المعاني الثلاثة كلها : اعتبارا بأن النكرة في سياق الإثبات تفيد العموم إن كانت مصدرا أو كانت تحتمل جميع ما تدل عليه من المعاني ، كما في لفظ ( سلام ) هنا .
7 - أنها ليلة يغفر ما سلف من الذنب لمن قامها محتسبا أجره على الله سبحانه ، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم :"من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا ، غفر له ما تقدم من ذنبه"رواه البخاري ومسلم .
على أن مغفرة ما تقدم من الذنوب بقيام ليلة القدر وبصيام شهر رمضان وقيامه - مشروط باجتناب الكبائر : فمن لم يجتنب الكبائر لم تكفر له هذه الأعمال كبائره ، بل لا بد لها من توبة نصوح عند الجمهور ، ولكن هل تكفر له الصغائر ؟ قولان للعلماء : أحدهما أن من لم يجتنب الكبائر فإن هذه الأعمال حينئذ تكفر له الصغائر وإن لم تكفر له الكبائر . والثاني : أن من لم يجتنب الكبائر ، لم تكفر له هذه الأعمال الكبائر ولا الصغائر أيضا .
ولكن ابن المنذر خلافا للجمهور قال إن قيام ليلة القدر خاصة ، يُرجى به مغفرة الذنوب من الكبائر والصغائر معا . وقال غيره مثل ذلك في الصوم أيضا ، وليس في ليلة القدر فقط . وبالجملة فقد حصل أن كل واحد من صوم رمضان ، وقيامه ، وقيام ليلة القدر منه - مكفر وحده وبمجرده لما سلف من الذنوب ، ولكن كلا من صيامه وقيامه ، يتوقف تكفير الذنوب به على انقضاء تمام الشهر واستكمال عدته بالصيام والقيام ، أما ليلة القدر فيحصل تكفير ما سلف من الذنب بها بمجرد انتهائها ، ولا يتوقف ذلك على انقضاء الشهر وتمامه : هذا ولعل الحكمة من خصيصة ليلة القدر ، ما ذكره الإمام مالك حين قال في الموطأ :"بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُريَ أعمار الناس قبله ، أو ما شاء الله من ذلك ، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرُهم في طول العمر ، فأعطاه الله ليلة القدر خيرا من ألف شهر". قال الحافظ ابن عبد البر : هذا أحد الأحاديث الأربعة التي لا توجد في غير الموطأ ، لا مسندا ولا مرسلا ، وليس منها حديث منكر ، ولا ما يدفعه أصل . وهذا علما بأن مدة الألف شهر هي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر .
ونظرا لعظم هذه الليلة المباركة ومزيد شرفها ، فإن من ضيعة الأعمار وإهدار الأوقات ، أن لا يشمر العبد فيها للطاعة والعبادة : طلبا لعظيم ثواب ذلك فيها ، وتحصيلا لمغانمها الكثيرة ، وثمراتها الثرّة . بل إن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي ، وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قام بالصحابة رضي الله عنهم ليلة ثلاث وعشرين ، وخمس وعشرين ، وسبع وعشرين ، ولكنه دعا أهله ونساءه للقيام ليلة سبع وعشرين خاصة"وهذا - كما قال الحافظ ابن رجب الحنبلي - يدل على أنه يتأكد إيقاظ الأهل في آكد الأوتار التي ترجى فيها ليلة القدر . وقد كان الإمام سفيان الثوري يقول :"أحبُّ إليَّ إذا دخل العشر الأواخر أن يَتهجَّد بالليل ، ويَجتهد فيه ، يُنهضَ أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك". وكان رضي الله عنه يقول في ليلة القدر :"الدعاء في تلك الليلة أحب إلي من الصلاة". ومراده أن كثرة الدعاء أفضل من الصلاة التي لا دعاء فيها ، وإلا فلا شك أن الأحسن أن يجعل دعاءه في صلاته